منقول
في هذه الأيام خرج علينا أناس يريدون أن يسطوا على هوية مصر (مهد الخلافة الإسلامية وبلد الأزهر) ويزيفوا التاريخ، زاعمين أنه ينبغي القضاء على الإسلام في مصر بحجة أن مصر علمانية بطبعها!!
بل قال قائلهم: "من قال: إن مصر متدينة! مصر علمانية، وستظل علمانية، وعلينا أن نستغل الفرصة التي قد لا يأتي مثلها، من أجل القضاء تمامًا على الإسلام السياسي، وهذا الأمر سيكلفنا دماء كثيرة، ولكن لا يهم في سبيل الدولة المدنية العلمانية".
وهذه المزاعم إن دلت فإنما تدل على مدى الجهل الذي يعيش فيه بعض الكتاب الذين سقطوا صَرْعى الغزو الفكري فصاروا أرقاء التفكير منزوعي الهوية، يروجون كلامًا ما أنزل الله به من سلطان، ويدعون إلى سفك الدماء علنًا، منفذين بذلك مؤامرات من عاشوا يخدمون في بلاطهم ويلعقون أحذيتهم.
ومن هنا فسوف نتحدث عن العلمانية، وهل هي ظاهرة مستوردة من الغرب؟ أم أنها مصرية النشأة كما زعموا، كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذباً، المفكرة الألمانية الدكتورة كريستيانا باولوس أستاذة اللاهوت البروتستانتي في ألمانيا ورئيسة لجنة الحوار وأستاذة الدراسات الإسلامية باللغة الألمانية بجماعة الأزهر توضح ظاهرة العلمانية، وما هي الظروف التي أدت إلى نشأتها في بلاد الغرب؟ وكيف أنها كانت حاجة لمجتمع بعينه هو المجتمع الغربي الذي انعزل فيه رجال الكنيسة عن الواقع المعيش، مرتكزين في ذلك لما نسبوه للمسيح عليه السلام: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وقوله: "مملكتي ليست من هذا العالم"، فسيطرت عليهم هذه النظرة إلى العالم الدنيوي بأنه عالم سيِّئ، وأنهم ينتظرون مجيء القيامة وعودة المسيح المنتظر الذي سيخلصهم من هذا العالم، وجعلوا العلم مقصورًا عليهم، وكذلك الدين فما يقولونه مفروض على المجتمع وما سواه خطأ مرفوض، ولا مجال للحرية أو الرأي، ومَنْ سولت له نفسه –باستثناء رجال الدين- التحدث في الدين أو الجهر بنظرية علمية فليس أمامه إلا الموت أو الفرار، ونُصبت المحاكم هناك وأقيمت المشانق وتم الحجر على كل رأي فكر.
وذكرت د.كريستيانا أن العلمانية نشأت في الغرب بسبب أزمة الكنيسة الكاثوليكية خلال القرون الوسطى، حيث "حُبس العلم والمعرفة في بداية الأمر داخل الأديرة، وشنّع رجال الدين على بعض العلماء والراغبين في إصلاح الكنيسة بوصفهم زنادقة؛ ليتم من ثم قتلهم بمقتضى ذلك"، وفي المقابل كان هناك –والكلام لكريستيانا- "تقدم الإسلام الذي لا توجد بينه وبين الدنيا فجوة، ومن هنا نشبت حروب دينية في القرن السابع عشر استعر أوارها بين المذاهب المسيحية وانتهت بألا يُخلط الدين بالسياسة".
وتقول المفكرة الألمانية "تزايد عدد البشر الذين صاروا في أوضاع اقتصادية تمكنهم من الاستمتاع بالأمور الدنيوية، حيث يخرجون من الطين والفقر وأودية الأسى التي فضحها فلاسفة التنوير على أنها عقيدة الكنيسة المتسلطة، التي تحول بين أتباعها والثقافة، حتى تضمن عبوديتهم وخضوعهم لها"، ثم أوردت د.كريستيانا عبارة كارل ماركس "الدين أفيون الشعوب" بأنه "كان يطلق هذا الوصف على الكنيسة الرسمية بينما لم يجادل في الهدف الإيجابي للدين"، ثم قالت "فالتحول للعلمانية كتوجه نحو الدنيا في مقابل الآخرة أدى إلى نشوء مادية سطحية"، وعن علاقة هذا الموضوع بما يجري بمصر بعد ثورة 25 يناير أوضحت كريستيانا "أن العلمانية كانت ضرورة للغرب المسيحي وخيرًا له، حيث كان رجال الدين يستغلون الشعب ويسيطرون عليه مع الملوك والإقطاعيين، بينما كان الشعب منشغلاً بالسحر عن نور العلم محرومًا من أي ثقافة أو تعليم".
أما عندنا في مصر، فلا يوجد أصلاً في المجتمع الإسلامي طبقة كهنوت أو رجال دين يحيطون أنفسهم بقداسة المحرمات ويكتسبون شرعيتهم من المحظورات، فهذه الطبقة لا يمكن أن تظهر إلا في المسيحية؛ لأنها لا تحتاج إلى تشريع –من وجهة نظرهم- ما دام العالم على أبواب يوم القيامة، حيث ينشأ فراغ سياسي، وهذا الأمر غير وارد عندنا في الإسلام الذي يملك التشريع، ويفصل بين السلطات ليتيح الرقابة على السلطة في سبيل العدالة الاجتماعية بل ويطالب بها، ولقد كان أول أمر من الله لرسوله هو {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.
ومن هنا فسواء كانت العلمانية نسبة إلى العالم أو العلم أو العمران أو المدنية، فالإسلام هو دين العلم والمدنية، جعل العلم قسمة بين الجميع ممن كانوا له كفئًا حتى ولو كانوا من العبيد والموالي، وهو دين واقعي يراعي كل شئون الحياة ولا يترك شاردة ولا واردة إلا تحدث عنها مصداقا لقوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أرسى للمسلمين منهج حياة شاملاً، جَمَعَ فيه بين الدنيا والآخرة حتى أنه علمهم كيفية الأكل والشرب وقضاء الحاجة ومعاملة النساء والأولاد.
فهل بعد هذا نقول إن مصر علمانية؟! مصر التي كانت مهد الأنبياء ومهبط الرسالات، ففيها بعث نبي الله يوسف ونبي الله موسى، وزارها الخليل إبراهيم ونبي الله يعقوب والمسيح عيسى ابن مريم عليهم الصلاة والسلام، وبها مدينة الفسطاط ومسجد عمرو بن العاص والجامع الأزهر وقلعة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وهي بلد سلطان العلماء العز بن عبد السلام وفيها كان الإمام الليث بن سعد رحمهما الله، كل هذه شواهد على حضارة مصر الإسلامية، أفيقوا أيها الغَفْلى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق