الجمعة، 23 أغسطس 2013

محمد طبراني عن الشهيد سيد قطب رحمه الله : حقيقة القدر والأجل

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} .

  •  لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل, وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى: {لو أطاعونا ما قتلوا} فقال يتحداهم: {قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}..

    شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة.. أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة. فكشف لها عن مصير الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله - وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى، مجردة من كل ملابسة أخرى - فإذا هؤلاء الشهداء أحياء، لهم كل خصائص الأحياء. فهم {يرزقون} عند ربهم. وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله. وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين. وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم.. فهذه خصائص الأحياء: من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير. فما الحسرة على فراقهم؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث, فوق ما نالهم من فضل الله, وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين, الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله..؟

    إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور. إنها تعدّل - بل تنشىء إنشاء - تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها, وهي موصولة لا تنقطع ; فليس الموت خاتمة المطاف ; بل ليس حاجزاً بين ما قبله وما بعده على الإطلاق!

  •  فهؤلاء ناس منا, يقتلون, وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها, ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها. ولكن لأنهم: {قتلوا في سبيل الله} ; وتجردوا له من كل الأعراض والأغراض الجزئية الصغيرة; واتصلت أرواحهم بالله, فجادوا بأرواحهم في سبيله.. لأنهم قتلوا كذلك, فإن الله - سبحانه - يخبرنا في الخبر الصادق, أنهم ليسوا أمواتاً. وينهانا أن نحسبهم كذلك, ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده, وأنهم يرزقون. فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء.. ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى:

    {فرحين بما آتاهم الله من فضله}..

    فهم يستقبلون رزق الله بالفرح; لأنهم يدركون أنه {من فضله} عليهم. فهو دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله. فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه؟
    ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم; وهم مستبشرون لهم; لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين:

  • فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء - الذين قتلوا في سبيل الله؟ - وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم; وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس, عن هذه الرحلة إلى جوار الله, مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة!

  •  إنها تعديل كامل لمفهوم الموت - متى كان في سبيل الله - وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم, وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم. وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها, بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة, كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة. وحيث تستقر في مجال فسيح عريض، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة, ومن حياة إلى حياة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق