مجلة العربي الكويتية - أول يوليو 2009
فخري صالح
صمويل هنتنجتون.. هل من المحتم أن تتصادم الحضارات؟
خريطة للصراعات العالمية
حسب هنتنجتون، فإن نموذج صدام الحضارات يوفر خريطة سهلة لفهم ما يجري في عالم القرن العشرين. ومن ثم فإن الكثير من التطورات الحاصلة بعد الحرب الباردة يمكن استنتاجها من نموذج صدام الحضارات. ومن هذا المنظور يوضح الكاتب أن الدين هو الحجر الأساس الذي يستند إليه في تعيينه للحضارات المختلفة، إذ قد يشترك البشر في أصولهم الإثنية واللغة التي يتكلمونها ولكن أصولهم الدينية تجعلهم ينتمون إلى حضارات مختلفة.
وهو يقسم العالم إلى ديانتين رئيسيتين هما المسيحية والإسلام تضمان بين جوانحهما أعراقا بشرية مختلفة. ونحن نلاحظ في هذا التشديد رغبة في إقامة فاصل بين عالم الغرب المسيحي والإسلام، تمهيدا للتشديد على أن عدو الغرب الماثل والمهدد هو الإسلام. وهكذا يتوضح أن عقلية البحث عن عدو تحكم الكتاب من أول صفحة فيه إلى آخر صفحة.
ومن هنا ضعف التحليل وفوضى المادة التطبيقية، التي قصد منها تعزيز النظرية التي أطلقها هنتنجتون في مقالته الشهيرة في مجلة «الشئون الخارجية» الأمريكية.
يرى هنتنجتون أن العلاقة التي سادت بين الحضارات في السابق هي المواجهة، وكانت المساحات الشاسعة التي تفصل الكتل الحضارية عن بعضها بعضا مانعا أساسيا دون تفاعلها إلى أن ظهرت الحضارة الغربية وتمددت خلال القرون الأربعة الأخيرة، وأخضعت عددا من الحضارات الأخرى لسيطرتها. وقد سهل عملية انتشار الحضارة الغربية في العالم تقدم مؤسساته، والنظام والتدريب العالي لجيوشه وتطور أسلحته وخدماته الطبية ،وسهولة عمليات النقل وتوفير خطوط التموين لجيوشه وأفراده. كل ذلك حدث نتيجة للثورة الصناعية المتقدمة التي أدت إلى انتصار الغرب على خصومه. ولم ينتصر الغرب، كما يعتقد الكثير من أفراده وقادته السياسيين، بسبب علو قيمه أو أفكاره أو دينه بل بسبب قدرته على استخدام العنف المنظم ضد الحضارات الأخرى. لكن قدرة الغرب على احتلال مساحات شاسعة من العالم أدت إلى تحول في طبيعة العلاقة بين الحضارات من المواجهة إلى التأثير. ويقيم هنتنجتون رؤيته للتفاعل بين الحضارات على عدد من الحقائق العملية:
1- لقد انتهى الآن توسع الغرب وامتداده وبدأت المواجهة مع الغرب، خصوصا بعد أن ضعفت قوة الحضارة الغربية نسبيا بالقياس إلى الحضارات الأخرى. ومن هنا فإن خريطة العالم عام 1990 تختلف عما كانت عليه هذه الخريطة عام 1920. وبالرغم من أن الغرب مازال مؤثرا في المجتمعات الأخرى فإنه لم يعد قادرا كالسابق على صناعة تاريخ البشرية على هواه، بل إن المجتمعات غير الغربية قد أصبحت تحرك التاريخ وتؤثر في تاريخ الغرب نفسه.
2- بناء على التطورات السابقة امتد النظام العالمي خارج حدود الغرب وأصبح ينتمي إلى حضارات متعددة. في الوقت نفسه خفت حدة الصراعات بين دول الغرب نفسه الذي بدأ يتجه إلى تشكيل «حكومته العالمية»، وهو طور لم يتحقق بعد مع نهاية القرن العشرين بالرغم من أن الدول الغربية حلمت به منذ فترة طويلة.
3- انتقلت الجغرافية السياسية العالمية من مرحلة العالم الواحد عام 1920 إلى مرحلة العالم الثلاثي الأقطاب في الستينيات، وصولا إلى العالم الذي تلعب في ساحة سياسته الدولية ست قوى أو تزيد في التسعينيات.
يستند هنتنجتون في أطروحته حول صدام الحضارات إلى تجدد الهويات الثقافية للشعوب واصطدام هذه الهويات بعامل التغريب في المجتمعات غير الغربية، فإذا كان مصطفى كمال أتاتورك قد عمل في بداية القرن العشرين، وبعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى على إحداث تغيير جذري في الهوية التركية عبر تغريبها بهدف الوصول إلى حداثة الغرب، فإن إحساس الأتراك بالهوية هو الآن إحساس مأزوم سيؤدي إلى صدام عنيف بين حراس التغريب ودعاة الهوية التركية الإسلامية.
وعلى الرغم من أن هنتنجتون يؤمن بمقولة ترابط الحداثة والتغريب، إلا أنه يعتقد أن إجبار المجتمعات على تغريب هوياتها قد يولد ردود فعل مناهضة للتغريب والدعوة مجددا إلى إحياء الهويات الثقافية الأصلية للشعوب التي تغربت هوياتها أو التحقت بالغرب بصورة من الصور.
لكن هنتنجتون لا يذكر في عرضه لردود الفعل على التغريب السبب الفعلي الكامن وراء انعكاس عمليات التحديث في المجتمعات غير الغربية، ولا يشير في هذا السياق إلى الطبيعة العدوانية للغرب وذكريات الاستعمار القريبة والراهنة، التي تولد نفورا لدى الشعوب المستعمرة أو الواقعة في مجال الهيمنة الغربية.
-----------------------------------------
لاَ تَحْسَبِ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثِقَة ٍ
مِنْ أَمْرِهِمْ، بَلْ عَلَى ظَنٍّ وَتَخْيِيلِ
حُبُّ الْحَيَاة ِ، وَبُغْضُ الْمَوْتِ أَوْرَثَهُمْ
جُبْنَ الطِّبَاعِ، وَتَصْدِيقَ الأَبَاطِيلِ
محمود سامي البارودي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق