المعادلة الخفية لعقبات الربيع العربي ـ أبو يعرب المرزوقي
تونس،منزل بورقيبة في 2013.07.08"تونس برس" أبو يعرب المرزوقي:
ما مطلوب هذه المحاولة
أريد في هذه المحاولة أن أصوغ المعادلة التي تصل ما يجري الآن بما أعد له في النصف الثاني من القرن الماضي. والمعلوم أن ما سبق نصف القرن الماضي هو بدوره حصيلة كل ما تقدم عليه في تاريخنا الحديث والوسيط حتى القديم حتى وإن كان الخيط الخفي الواصل شبه غائب عن أذهان الشباب علما وأن الرابط الذهني شرط كل ربط بين ما يجري في الأعيان: حديث الأمم عن أحداث تاريخها هو أساس وحدة وعيها التاريخي. فلا يمكن أن نفهم ما يجري في الربيع العربي في هذه اللحظة الواصلة بين موجتيه اللتين تمثلان تاريخه الوجيز منذ ما ينيف عن سنتين من استخراج معادلته الدقيقة. فالموجتان هما:
نهاية موجته الأولى عديمة المشروع الواضح والقيادة المحددة وتمثلها الانتخاب الديموقراطي لمن اختارهم الشعب لحكمه إما بصورة انتقالية كما في تونس أو بصورة عادية كما في مصر.
وبداية موجته الثانية التي حددت مشروعه وقياداته بصورة فعلية لم تعد محل نقاش لأنه تكفي الإشارة لمن يعاديها هي ضرورة الحسم مع البواقي الشوهاء من نخب الحرب الباردة التي انتهت منذ عقدين والتي تمثلها ذهنية نخب نصف القرن الماضي.
ورجائي ألا يعجب القراء من نسق الكتابة في الثورة نسقها المتواصل والسريع. فقد وعدت بأن أعود لما كنت أقوم به قبل العمل السياسي المباشر عندما كنت من ماليزيا أتابع الأحداث العربية الحية في العراق وفلسطين خاصة مع تغيير وسيلة التواصل من الصحف العربية المهاجرة (القدس والحياة خاصة) إلى وسائل الاتصال الاجتماعي: تحليل ما يجري ومحاولة فهمه وعرضه على السيدات والسادة القراء مساهمة مني في الجهاد باللسان وسطا بين القلب واليد.
طبيعة المرحلة العربية الراهنة
إن مفعول الحرب الباردة في الوطن العربي تعين في حرب ضروس بين الأنظمة التي تدعي التحديث والثورة باسم الاشتراكية الشعبية بقيادة نظام حكم دكتاتوري وطائفي وبحماية سوفياتية بينها وبين الأنظمة التي تدعي التأصيل والمحافظة باسم القيم الإسلامية بقيادة نظام حكم دكتاتوري وقبلي وبحماية أمريكية. والمعلوم أن كلا الدعويين كاذبة من حيث الأهداف وأن واقعها المخالف لدعواها هو بحق ما وصفنا:
فالأنظمة الأولى تحولت إلى مخلب سوفياتي في الحرب العالمية بين القطبين وفي الحرب العربية العربية بين الصفين.
والأنظمة الثانية تحولت إلى مخلب أمريكي في نفس الحرب بين القطبين في العالم وبين الصفين في الوطن العربي.
وكان من ثمرات هذا الاستقطاب والتبعية للقطبين وما أدت إليه من مشاركة في الحروب الجارية في العالم بين القطبين (أفغانستان خاصة) أربعة حروب قومية ذات أبعاد دولية. فهذه الحروب كانت ذات أبعاد دولية غاية وتخطيطا. وهي لم تكن عربية عربية إلا أداة وتنفيذا: حرب اليمن وحروب الخليج الثلاث. لكن المعادلة أعقد من هذا الوجه البين للجميع الذي لا حاجة لإطالة الكلام عليه رغم أن آثاره لا تزال تلاحق العرب لأن العداء بينهم تحول إلى عداء بين الإسلام والقومية ومن ثم على تناقض جذري بين مقومي الوجود الروحي للجماعة.
وذلك هو ما يفهمنا أن الربيع العربي تبين في ظرفه الراهن مواصلة لهذه الحروب على نحو نسعى إلى فهمه في هذه المحاولة وهو قصدنا بالمعادلة الخفية. فما كان دون ذلك خفاء هو المعادلة التي جندت من يؤدي الدورين اللذين ينبغي أن نفهم ما بلغا إليه في الربيع العربي المعادلة التي هي التجسيد الفعلي لهذا العداء المطلق في بين مقومي الوجود الروحي للجماعة فضلا عما ترتب عليه من إحياء لكل صراعات الماضي الطائفية والعرقية والطبقية:
دور الإرهاب المادي وهو ينسب عادة إلى الإسلاميين سواء من كان منهم إسلاميا مستغفلا يشارك بدون وعي بالرهان أو من كان مندسا في صفهم لاستغلالهم في الخطة الاستعمارية التي كان يغلب عليها المحرك الأمريكي والأوروبي.
ودور الإرهاب الرمزي وهو ينسب عادة إلى الحداثيين سواء كان منهم حداثيا مستغفلا يشارك بدون وعي بالرهان أو من كان مندسا في صفهم لاستغلالهم في الخطة الاستعمارية التي كان يغلب عليها المحرك السوفياتي والصيني.
فكانت النخب العربية بصنفيها الحداثي والإسلامي أداتين لقطبي الحرب العالمية ولصفي الحرب العربية العربية بعضهم بقصد ووعي وبعضهم بانجراف لا واع مع الموضة أو التخدير الإيديولوجي:
فكان الإرهابي المادي أداة أمريكية لمحاربة الاتحاد السوفياتي والأنظمة القومية المحالفة معه.
وكان الإرهابي الرمزي أداة سوفياتية لمحاربة أمريكا والأنظمة التقليدية المتحالفة معها.
وظل الأمر على هذه الحال إلى أن سقط أحد القطبين بفرعيه إما لإفلاسه الاقتصادي والإيديولوجي (الاتحاد السوفياتي) أو لتطوير عقيدته الاقتصادية والإيديولوجية (الصين) فلم يبق إلا القطب الثاني بفرعيه اللذين بدوا وكأنهما يمثلان نهاية التاريخ والخيار الأوحد بالنسبة إلى البشرية قاطبة (أمريكا وأوروبا) وذلك عند كل من تصور مستقبل الإنسانية لم يعد له أي أفق إمكان: فأصبح كلا الإرهابين أداة أمريكية.
فالحداثي أصبح أداة أمريكية بخياره لأنه يتصور حليفه ساعيا إلى نفس الغاية التي يسعى إليها: الحرب على مقومات الصمود الروحية بدعوى التحديث.
والتأصيلي أصبح أداة أمريكية رغم أنفه لأن حليفه يستعمل عنفه لتشويه قضيته ويوهمه بالبطولة: تشويه مقومات الصمود الروحية بدعوى الجهاد.
التطور الحاصل بسبب نهاية الحرب الباردة
وإذن فكلتا النخبتين تحارب مقومات الصمود الروحي وتشوهها بوعي وبغير وعي. فنخب الإرهاب الرمزي التي كانت تدعي الشيوعية والديموقراطية الشعبية أصبحت تزعم تبني الليبرالية والديموقراطية البورجوازية. ومن ثم فهي قد استبدلت العمالة للاتحاد السوفياتي بالعمالة لأمريكا تماما كما حدث في أوروبا الشرقية. وكان يمكن أن تبقى نخب الإرهاب المادي التي كانت تدعي الجهاد في خوضها للحرب على شروط النهوض الناجح رغم سعيها للتحرر من العمالة إلى أمريكا. لكنها بعد تفرد أمريكا بالساحة بدأت تدرك أنها كانت مجرد أداة في الحرب الأفغانية وخاصة بعد تقاسم أمريكا وإيران السلطة في الخليج بدعوى حمايتهم من صدام حسين سابقا ومن الربيع العربي حاليا. وهي في الحقيقة وحتى في وعي الأنظمة ليس لها من وظيفة إلا حماية الأنظمة من الشعوب لا أكثر ولا أقل.
مراجعات الجهاديين ما دلالتها؟
لقد تقدم على الربيع العربي في مصر بالذات الوعي الحاد بما كان خافيا من المعادلة أو المجهول منها في سلوك النخب الإسلامية المجاهدة. شرع من فهم منهم أنهم لم يكونوا إلا مجرد أداة شرعوا في ما يسمى بالمراجعات حتى وإن لم تعم كل دار الإسلام ما جعل البعض يعيد كرة العمل المعارض للهدف في المغرب العربي رغم تبين فشله في المشرق العربي ووصول أصحابه إلى المراجعات التي تمثل تحررا من كل الفقه السياسي الذي ساد خلال الفترة المتقدمة على نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي. والحمد لله أن هذا العمل المعارض للهدف لم يبق إلا على هامش التاريخ الإسلامي الحالي إذ إن بعض المتنطعين لم ينحازوا للعمل السياسي المدني والسلمي لبناء شروط النهوض الفعلي بتحقيق شرطي النجاح: أعني تحقيق المصالحة بين الإحياء الأصيل والتحديث النبيل.
لذلك فالغالب اليوم على النخب الجهادية هو ما نراه يجري في الربيع العربي عامة وفي مصر خاصة أعني تجنب العنف إلى حد يقارب النزعة الغاندية رغم كل التشويه الذي يحاول إلصاقه بهم الإعلام المنحاز والفاسد. ويتضح ذلك بصورة ناصعة في المقاومة السلمية للانقلاب: المقاومة السلمية والعمل السياسي المدني لتحقيق النهضة الأصيلة والحديثة في آن. وهذا أمر مفهوم فلا معنى للجوء إلى العنف للحصول على ما يمكن أن تحصل عليه سلميا: فالديموقراطية إذا صدق الجميع في ممارستها النزيهة من المفروض أن تكون لصالح من يطابق فكره نبض الشارع الذي هو في غالبيته العظمى إسلامي ولكن بمعنى تأصيلي وتحديثي في آن لأنه لا يوجد اليوم بين المسلمين من يريد أن تكون حياته من جنس حياة قبائل تورا بورا أي إن الحداثة في معناها الأسمى باتت مطلوب الجميع دون أن تكون معادية لما يؤمن به الشعب كما يقدمها من يتصورون أنفسهم حماتها وهم في الحقيقة أعداء تفعليها في الواقع لاشتراطهم أن تكون مفروضة بقوة العسكر.
متى تراجع نخب الإرهاب الرمزي فكرها وسلوكها ؟
أما ما لم يحدث ويمثل اليوم أكبر عائق أمام نجاح الربيع العربي فهو ما يمكن أن يكون مماثلا للمراجعات عند الإسلاميين. فالحداثيون لم يقوموا بالمراجعات الواجبة بل بالعكس فإنهم يحاولون الآن الجمع بين الإرهابين. والسر في ذلك واضح: فقد كانوا في غنى عن تلويث أيديهم لما كانت أجهزة الدولة التي يخدمونها قائمة بهذه المهمة ضد المعارضين. ولما سقطت هذه الدولة بدأوا يسعون إلى الجمع بين الإرهابين. لم تعد وظيفة تبييض الأنظمة الفاسدة والمستبدة تكفيهم بل هم يريدون أن يكون قادة ومخططين لأجهزتها الخفية في الدولة العميقة بعد الثورة بالتنظير للاستبداد والفساد وتحقير الشعب وقيمه وبالإعلام المزيف للحقائق وكذلك وبالإرهاب المادي الذي سيحولهم إلى رؤساء فرق البلطجية: رأينا أمثلة من ذلك في ما يدور حول المناجم ونراه اليوم في مصر رؤية العين.
ومع ذلك ولأننا لا نيأس من أي مواطن ومن قابليته للانحياز لمصلحة الوطن في الغاية فإننا نطالبهم بالمراجعة إذا كانوا بحق يريدون أن يسهموا سلميا في حياة الجماعة وبصورة ديموقراطية أعني بتقديم بضاعتهم تقديما يجعلها مما يرضى عنه الشعب بإرادته الحرة. ولنعدهم بأن محاولة جر الإسلاميين إلى العنف لن تنجح. والعائق عند هذا النوع من النخب هو احتقارهم للشعب وهم في الحقيقة لا يحتقرون إلا أنفسهم إذ هم ليس لهم من الحداثة إلا بريق الشعارات لأن الغالبية منهم أرباع مثقفين وأغلبهم من زبائن مافيات الأنظمة الفاشية التي قامت الثورة عليها وزبانيتها. لذلك فهم لا يمكن أن يقبلوا بغير النظام المستبد والفاسد أي بالتحالف مع العسكر: ذلك أنهم لم يتمكنوا من إعادة النظر في فكرهم وعقائدهم بل هم لا يزالون يسعون إلى التحديث المستبد والفاسد مواصلين بنسق أكثر عدوانية ما يسميه الاستعمار بالمهمة التحضيرية للأنديجان. لذلك فهم يائسون من إمكانية الاستفادة من الديموقراطية.
حجج التحديث المستبد والفاسد
وحتى يتخلصوا من هذا الموقف الذي يعسر الدفاع عنه تراهم يحتجون بأمور يعلمون أنها مستحيلة ومتناقضة بمقتضى المفهوم والتاريخ. فلا بد حسب رأيهم من مسخ الشعب مسخا يسمونه تحضيرا وتنويرا حتى يصبح فكره مطابقا لفكرهم فينتخبهم. ومن دون هذا الشرط لا تكون الديموقراطية حقيقية حسب رأيهم. لكنهم لم يسألوا أنفسهم عن مدى صحة ذلك بمقتضى المفهوم والتاريخ لأنهم لو فعلوا لأدركوا خطأهم المريب:
فمفهوميا الديموقراطية هي حكم الشعب وليس حكم النخب حكمها الذي هو أرستوقراطية إذا كانت النخب من الفضلاء وهو أمر لا أظن الكثير منهم يمكن أن يدعيه أمام المرآة. فإذا كان ينبغي أن ننتظر حتى يصبح الشعب كله نخبا بهذا المعنى فمعنى ذلك أن شرط الديموقراطية هو مجيء جودو أعني انتظار ما لن يجيء أبدا.
وتاريخيا لا يمكن لأي عاقل أن يدعي أن أوروبا لما بدأت في تطبيق الديموقراطية والشرق الأقصى لما استأنف تطبيق ما يماثلها تحقق فيهما هذا الشرط أي أصبح كل الشعب متعلما مثل نخبنا الحداثية. والمعلوم أن ردهم على هذا الاعتراض هو القول بضرورة الدكتاتورية لتحقيق التنوير المستبد. وقد اختاروا السيسي مستبدا مستنيرا دون شك.
ما يحدث في مصر الآن هو محاولة إعادة عقارب الساعة على منطق الثورات التي حدثت في الخمسينات بغير شروط إمكانه:
موضوعية كانت (انعدام ثنائية الخيار المجتمعي حيث تحول خيار الغرب الرأسمالي إلى مصير مطلق وشبه قضاء وقدر عندهم)
أو ذاتية (القيادات التحديثية أصبحت صريحة العداء لكل ما له علاقة بمصادر الذات).
لذلك فإن البعض من هذه النخب الفاشية يريد أن يعيد عقارب الساعة إلى ما لم يعد قابلا للوجود فيحكم مصر بالانقلاب العسكري والعصابات المأجورة وبمستبد يزعمونه مستنيرا مثلهم وهو أجهل من حذائه بدليل إدخاله مصر في نفق مظلم لا يقدم عليه من كان له ذرة من عقل. ثم يصفون ذلك بكونه ثورة شعبية مستندين إلى الإعلام الفاقد لكل مصداقية وإلى الحشود التي تمثل نار هشيم. فهي تحتشد للحظة قصيرة توظف خلالها بعض المستغفلين الذين يحتجون حقا بصعوبات فعلية تتلو كل ثورة وخاصة في بلاد تابعة ليكونوا غطاء تختفي وراءه هذه العصابات الإجرامية المأجورة التي تكونت وتربت خلال نصف القرن الماضي في الأنظمة الفاشية القومية.
لكن هيهات: فكل ما يدعونه من قيم حداثية انتقلت إلى الصف الثاني ليس من حيث هي مطلوبات فحسب بل وكذلك من حيث الإمكانات الفعلية لإنجازها في التاريخ الفعلي أعني تحقق شروط القدرة العلمية والعملية للنخب التي كانت في الخمسينات متخلفة من حيث التكوين الحديث وصارت اليوم جامعة بين التكوينين الأصيل والحديث. لذلك فقيادتها للثورة ومشروعها لم يعودا مجرد دعوى بل هما مطلوب فعلي للجماهير التي نراها اليوم تتصدى لحكم العسكر المتحالف مع الرجعية العربية وبقايا النظام السابق أعني حثالة نصف القرن الماضي بعد أن ماتت فاعلية شعاراته القومية والاشتراكية وفقدت بريقها بسبب ما آلت إليه من نقائضها الفعلية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق